حاكم وهران وبايلك الغرب الجزائري
أبو عثمان محمد بن عثمان الكبير – الباي لكحل-
1797-1779/1212-1193فترة حكمه
ج3
صفاته :
إعتمدنا في بيان ذلك على المخطوطات التي تركها المقربون للباي محمد الكبير ،وهم ابن سحنون الراشدي، وابن زرفة ،وابي راس الناصري،كما استعنا بشهادة ابن رقية التلمساني صاحب الزهرة النائرة وحتى الكثير من المؤرخين الأوربيين يقرّون في كتاباتهم الصفات الحميدة للباي ولا يبدون شكوكا أو إنكارا.
والغرض من دراسة صفاته اكتشاف
جوانب شخصيته كحاكم متنور في عصر الأنوار بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وإدراك مستوى النجاح الذي يمكن آن يحققه المرء في حياته عندما يربط بين علمه وأخلاقه،فكما قال الشاعر حافظ إبراهيم:
ولاتحسبن العلم ينفع وحده. مالم يتوج ربّه بخلاق
وعليه نحاول حوصلة مااشتهر عليه الباي محمد من صفات وخصال كالآتى:
1-الإلتزام بتعاليم الشريعة الإسلامية:
تشبع الباي محمد الكبير بتعالييم الإسلام، فالتزم بأحكامها ، وإليكم النصوص التاريخية الدالة على ذلك:
لقد كتب ابن زرفة في موضعين مايلي:« ذاك أمير المؤمنين ...المحفوظ بسير السور والآي ، أبو الفتوحات السيد محمد باي» ، ثم « فأنت ترى وقوف هذا السيد الأمير ...مع السنّة في كل أفعاله، وجريانه على منهج الصحابة الكرام في أقواله….» ويمكن لنا إبراز بعض المواقف التى يمكن تعزيز ماذهبنا إليه كالآتى:
- الإلتزام بالشورى:
لم يكن للباي محمد وزير أو مشير،لأنه كان أعرف بني ملته في عصره ،لكن لا يعني ذلك أنه تجاوز مبدأ الشورى الذي نصّ عليه القرآن الكريم،بل كان يشاور العلماء والصلحاء في معضلات الأمور ، وعبّر عن ذلك بوضوح كاتبه ابن زرفة: « وهذه سنة سيدنا الأمير ….مانزلت معضلة إلا جمع عليها العلماء ، من أهل بلده والصلحاء، فحصلت له بركة الديوان المذكور، ويسّر الله تعالى له جميع الأمور».
- إحترام أهل الذمة وأهل الصلح:
حفضا لذمة الله ورسوله، كان يعيش أهل الذمة (يهود و نصارى) وآهل الصلح في إيمان في حدود إيالته،فلا ينالهم منهم مكروه ولا يمسهم سوء ، بل العكس يتعرض ويعاقبكل من يتعرض لهم ، ما دام أهل الذمة يدفعون الجزية ، ومادام أهل الصلح ملتزمين بشروط الصلح ، ويكفي أن نتابع معاملته للأسرى المسحيين ، ولليهود ، وللإسبان عقب إبرام إتفاق الجلاء المشروط من وهران فى 12 سبتمبر 1791م.
- الصفح عن المذنبين التائبين :
- من خلال تتبع غزوات الباي محمد بن عثمان ، لوحظ أنه كان يصفح عن المارقين بمجرد أن يتوسلوا إليه طلبين عفوه ، كما كان يصفح عن الطلبة المرابطين حول وهران إذا صدر منهم إثما ، وعلينا أن نعي أنه كان لا يصفح عن المذنبين المعاندين مثلما وقع لأحد المغاطيس الجزائريين المسجونين ، حيث أمر الباي محمد بضرب عنقه أي قطع رأسه ، ليبقى عبرة للمعتبرين عندما عزم على مخادعة الباي بمعرفته لأصل ماء وهران مقابل تسريحه .
- الوفاء بالوعد والتعجيل بالمعروف :
- ذكر صاحب الجمانى أنه كان « كثير الوعد بالخير منجزا له ، لا يماطل موعده ، ولا يسوف بهباته وعطاياه ». فكان يعجّل الوفاء بوعده، ويجعل أيضا المعروف دون وعد به، واهتمامه بالفقراء والمحتاجين وطلبة العلم والمرابطين حول وهران ، خير دليل على ماتمّ ذكره ، ويمكن استبيان ذلك لاحقا.
- الجود والسخاء :
- اشتهر الباي محمد الكبير بكرمه وجوده وكثرة عطاياه في حدود بايليكه أو خارجه في كثير من المناسبات ،وما يلفت الإنتباه آنه سخي في الأزمات التي كانت تصيب الغرب الجزائري ، من جدب وقحط وجوع ووباء وفي ذلك كتب ابن سحنون « ...يولى العطايا الوافرة ، ويشمل بها سائر الناس عند المحل والجدب الشديد .» كما كان سخيا في العطايا الجهادية، فمثلا أجزل العطاء وهو خليفة للباي ابراهيم أثناء التصدي لحملة "أوريلي" الإسبانية عام 1775م ،وأفاض أيضا على المحاصرين لوهران مالا كثيرا دون أن يتلقى مساعدة مالية من الداي محمد آو حسن فكما ذكر ابن سحنون آنه كم من فقير صار غنيا بسبب مشاركته في تحرير وهران . وكانت الأعياد الدينية فرصة للباي ،يغتنمها لإفاضة إحسانه على أئمة المساجد والمؤذنين وعلى جميع طلبة المساجد والمشتغلين بتعليم الصبيان والقراء . ويبدو أن ابن سحنون بالغ في وصف سخاء الباي محمد ، إذ رأى أنه كان يحسن إلى الناس دون إقتداء بغيره ، حتى أنه يميز بين المحسن الحقيقي والمحسن المعاند ، ويعتبر الأموال عند الباي بمثابة التراب ، لا تساوي شيئا ، إ لا أنه يظهر لنا أن الإقتداء بالغير فيما ينفع العباد صفة نبيلة ،وأعتقد أن الباي محمد تأثر بكرم وجود شيخ وهران "إبراهيم التازي" الذي ورد عنه مايلي : " وقد كان أصحابه يعاتبونه على كرمه وإسرافه الذي ليس له نهاية ، ويقولون له فعلك هذا يهوّل أمرك إلى ضرورة الفقر ، فمان يجيبهم .....ألم تعلموا أن الكرم شيمتي ولا قدرة لي على تركه "، ثم يستطرد الكاتب المجهول الإسم على لسان إبراهيم التازي كاتبا: " الكريم جمع الناس عياله ، والبخيل ليس له عيال ولا حبيب حينئذ ....".
2- الدفاع عن الإسلام :
تعرض الباي محمد الكبير إلى كل من أساء إلى الإسلام قولا وفعلا ، سواء كانوا يهودا أو نصارى أو منافقي الأمة الإسلامية ، وضبطنا عبارتين تصبان في هذا السياق ، فقد كتب ابن سحنون ما ياي :" وأما من كان معاندا للشريعة الإسلامية محادا لله ورسوله خارجا عن الطاعة فإن فيهما له أهراق دمه وسفكه وكشف حرمه وهتكه ....." ،. وأخبرنا ابن زرفة عن شخص إسمه " الطبال ، إتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقمار ، فحبسه وقيّده الباي محمد الكبير .
واشتهر الباي بمجاهدته للاسبان و الجزائريين المتعاونين معهم ’ وحرص أشد الحرص على تحرير وهران وارجاعها إلى حظيرة بلاد المسلمين.
3- الحزم والشجاعة :
اتصف الباي محمد الكبير بحزمه في قمع حركات العصيان الداخلية ومحاربة العدو الإسباني ، وقد تطرق مقربوا الباي في كتبهم لحزمه وشجاعته ، فقد كتب أبو راس الناصري : " لا يترك أمرا يرجى نجاحه وطرق التوصل إليه غير سهل حتى يزاوله بالسيف والخيل والمزاولة والمعالجة والمحالة" . أما ابن زرفة فذكر مايلي :" ما توجّه لحدّ عسكره إلا فله ، والأرض قفلا صعب فتحته إلا حلّه ، ولا رمى غرضا إلا أصابه ....." وكتب ابن سحنون : " وأما شجاعته فإنما أمر تذل به الأسود .....وغزواته كلها من بعض دلائلها ، وبراهين مسائلها ".
وحتى ابن رقية التلمساني ، كتب في زهرته النائرة حول شجاعة محمد بن عثمان لما كان خليفة لباي الغرب في يوم الحراش عام 1775م ، فذكر : "لأن الخليفة كان ذا شجاعة ، عارفا بمكائد الحرب ومقتحما لأهواله ، شديد البأس له جرأة على الإقدام على العدو ، يقدم عليه بنفسه، يفعل في يومه ما لم يفعل به في أمسه ، صابر المقادر ، لكونه رجل شاطر......".
وقاده حزمه وشجاعته وإقدامه إلى أن أصبح مهابا بين الأعيان والعلماء والعامة وهو ما عبّر عليه صاحب الثغر الجماني في موضعين :" في حال كونه ذا مهابة .....لا تطيق العيون تملأ بالنظر إليه " ثم :" ماظهرت في الملك ثلمة إلا سدّها ولا عليت في الشقاق ريبة إلاّ هدّها ، حتى ملئت القلوب بهيبته".
4-الخبرة الحربية :
تمكن الباي بفضل حنكته العسكرية وخبرته أن يظفر بثقة جيشه وديوانه وقبائل الغرب الجزائري والحكم المركزي ويحقق انتصارات ضد القبائل العاصية والعدو الإسباني وأعوانه حتى صارت القوة والغلبة أحد صفاته ، فكان ابناء عصره يعلمون في كل منازلة عسكرية يقوم بها الباي ، أن الدائرة تكون له على غيره لثبوتها له في سائر الوطن سواء كانت داخل البايليك الغربي أو خارجه ضمن ربوع القطر الجزائري.
وتتحلى مظاهر خبرته الحربية في مداومته لغزو القبائل العاصية حتى أطاعت ودفعت اللزمة السنوية دون انقطاع ، وفي طريقة تسييره لعمليات تحرير وهران ، فقد استوعبت آليات حرب الإستنزاف ضد العدو الإسباني بوهران ، وضبط أهدافها ، وبرع في نسج الكمائن وإقامة الحصار وحفر الخنادق ونصب المتارس ، ولم يحاول اقتحام وهران إلا بعد أن خربت بفعل الزلزال في أكتوبر 1790 وبعد تلقي المعلومات الكافية عن الشؤون الداخلية للإسبان بوهران.
ولوحظ تفوقا في طريقة توزيع الجنود ، وتغيير مواقع المدفعية أثناء مباشرة القتال ، ومداومة تجدد الحماس لدى المجاهدين إعتمادا على خطب العلماء ، دون إغفال دور المال ووصول المؤونة الغذائية شهريا.
وقد شهد له صاحب الزهرة النائرة بتعبيلر صريح ، أنه كان عارفا بمكائد الحرب التى يمكن أن استقاها من تجربة والده عثمان وكفيله الباي ابراهيم وربما الباي الحاج خليل وشخصيات عسكرية أخرى نجهلها ، دون إغفال دور المخطوطات العربية في الشؤون العسكرية مادام أن الباي قد حرص على جمع نفائس الكتب واستنساخها .
5- الحلم :
ذكرت المصادر التاريخية المعتمدة مواقف الباي محمد التى تعبر بوضوح عن حلم يليق بالحكام ، فقد كان الباي يكشف كل أمر صعب ، مبهم العواقب ، وأظهر ثباتا في المآزق ، وحجته قوية ومقنعة ، فقد روي عنه ثبات الجأش عند غزوه لأولاد الشريف لما كان خليفة على القطاع الشرقي للغرب الجزائري سنأتي لإلى توصيحها لاحقا . وعقب زازال وهران سجلنا موقفا يعبّر عن حلمه ، إذ طلب منه مجلسه أن ينتهز فرصة الزلزال للإنقضاض على الإسبان ، فرفض تسرعهم وأخذ يتدبّر عواقب الأمور مبرزا لهم بحجة قاطعة أن الحرب خدعة ولا يمكن له أن يخاطر بنفسه والناس على مقاس الصدفة ، وكأنه في هذا الموضع يستفيد من الخطأ الذي ارتكبه الباي شعبان الزناقي عندما واجه الإسبان مواجهة مفضوحة ، فكلفه ذلك أن قتله أحد مغاطيس بني عامر ، وقطع الإسبان رأسه .وقد عبر ابن سحنون الراشدي على حلم الباي محمد الكبير كالآتى : "وأما حلمه فأمر شهير لا يحتاج في إثباته إلى سفير " ، بمعنى أن أعماله التى سندرسها لاحقا تفسر حلمه.
------------------------------------------
الأستاذ الدكتور بلبروات بن عتو رسالة ماجستير-2002 –
الباي محمد الكبير ومشروعه الحضاري 1779 -1797 .